سورة الزخرف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن اللّه سبحانه قد ذكر في الآيات السابقة ما كان من الأقوام السابقين من تكذيب لرسلهم، وكفر بما أرسلوا به إليهم.. فناسب أن يجىء ذكر إبراهيم- أبى الأنبياء- وموقفه هو من قومه، بعد أن كذبوه، وأنكروا عليه ما يدعوهم إليه من عبادة اللّه رب العالمين.
فإبراهيم عليه السلام، يتبرأ من دين أبيه وقومه، كما تبرءوا هم من الدّين الذي يدعوهم إليه.. {إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}.
إلا هنا بمعنى لكن.. أي لكن الذي {فَطَرَنِي} أي خلقنى ابتداء، هو الذي سيهدين إلى الحقّ، ويقيمنى على طريق الهدى.
ويجوز أن تكون {إِلَّا} دالة على الاستثناء، وفى هذا إشارة إلى أن هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، لم تكن عندهم إلا أربابا مع اللّه.
فهم كانوا يعبدون هذه الأصنام لتقربهم إلى اللّه. ولهذا صحّ عندهم أن يدخل اللّه سبحانه وتعالى في معبوداتهم التي يتبرأ إبراهيم من عبادتها. ثم يجىء الاستثناء منها للّه، سبحانه، الذي هو المعبود الحقّ الذي يعبده إبراهيم، ويطلب الهداية منه.
قوله تعالى: {جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
الضمير في جعلها يعود إلى مضمون قوله: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}.
فمضمون هذا القول هو الإيمان باللّه وحده، والإقرار بتفرده سبحانه بالخلق والأمر.. لا شريك له.. ومضمون هذا المضمون، كلمة واحدة هى التوحيد فالكلمة التي جعلها إبراهيم ميراثا منه لذريته من بعده هى كلمة التوحيد، وهى الإسلام، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [132: البقرة] وقوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
أي لعلّ ذرية إبراهيم يرجعون إلى هذا الميراث الذي تركه فيهم، ويذكرون ما وصّاهم به من الإيمان باللّه وحده، والا يموتوا الا وهم مسلمون.
وإذ كان مشركو العرب، من ذرّيّة إبراهيم- عليه السلام- فإن لهم ميراثهم من كلمته تلك، وإنهم إذا كانوا قد وجدوا آباءهم على دين غير دين أبيهم الأكبر إبراهيم- فإن أباهم هذا قد ترك فيهم ميراثا خيرا من هذا الميراث، ودينا أقوم من هذا الدين الذين تلقوه عن آبائهم.. إن آباءهم قد ضيّعوا هذا الميراث، فليمدّوا هم أيديهم لتلقيه، والانتفاع به.
{بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ}.
{بَلْ} إضراب عن كلام محذوف، دلّ عليه قوله تعالى: {وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
وهنا كلام كثير يقتضيه المقام، فكان سؤال، وهو: هل رجع عقب إبراهيم إلى كلمته تلك؟ وهل أقاموا دينهم عليها؟ وكان جواب: كلا لم يرجعوا إلى كلمته، ولم يستقيموا على دينه.
ثم كان سؤال، وهو: ما ذا فعل اللّه بهم؟ وكان جواب هو: كلا.
{بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحقّ ورسول مبين} أي أن اللّه سبحانه وتعالى قد ترك هؤلاء المشركين كما ترك آباءهم من قبل، فلم يبعث فيهم رسولا، فعاشوا كما تشاء لهم أهواؤهم، مطلقين من كلّ قيد، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، غير منذرين، أو مبشّرين.. وقد ظلّوا هكذا، معفين من التكاليف الشرعية حتى جاءهم الحق، وهو القرآن الكريم، وجاءهم رسول مبين.
هو رسول اللّه، صلوات اللّه وسلامه عليه.
وهذا الإعفاء من التكاليف للشرعية، هو دليل مرض، وليس علامة صحة.. فهو يشير إلى أنّ الذين اعفوا من هذه التكاليف ليسوا أهلا للتكاليف.. شأنهم في هذا شأن أصحاب الأعذار من الأطفال، والمرضى، والبلهاء والمجانين.
وفى دعوة هؤلاء المشركين إلى دين اللّه، وإلى حمل ما يدعون إليه من التكاليف الشرعية، إشارة إلى أنهم أهل لهذه الدعوة، وأنهم قد بلغوا مبلغ الرجال القادرين على حمل المسئوليات، وتلقى الجزاء عليها ثوابا، وعقابا.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ}.
أي أنه حين جاءهم الحقّ، وهو القرآن الكريم، لم ينظروا فيه، ولم يقفوا عنده، بل بادروا بالإعراض عنه، والتكذيب له، وتحديد موقفهم منه، وهو الكفر بكل ما جاء فيه.
قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}.
أي وقالوا تعليلا لتكذيبهم بالقرآن، وبأنه سحر.. {لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}؟ أي لو كان هذا القرآن من عند اللّه، فلم لم يكن المبعوث به إليهم من السّماء، سيّدا من ساداتهم في مكة أو الطائف؟ ولم يقع الاختيار على رجل نشأ فيهم يتيما فقيرا، لم يكن له فيهم رياسة في سلم أو حرب؟.
وقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
هو رد على هذا المنطق السقيم السفيه، الذي تجرى عليه مقابيس الأمور عند هؤلاء المشركين، وأنهم لا يفرّقون بين مطالب الجسد وحاجة الروح، ولا ما هو من غذاء الأجسام، وغذاء العقول..! فالإنسان العظيم عندهم هو من جمع ما جمع من مال، وما استكثر من عتاد ورجال، وإن كان لا حظّ له من عقل سليم، أو خلق قويم.
وقوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}.
إنكار على المشركين ما أنكروه على النبىّ أن يكون موضع هذا الإحسان العظيم، وحامل هذا النور القدسىّ السماوي.. إنهم ليسوا هم الذين يقسمون هذه الرحمة، بل هى بيد اللّه سبحانه وتعالى، يضعها حيث يشاء، وتختصّ بها من عباده من يشاء.
وهذه هى حظوظهم التي بين أيديهم من الدنيا.. هى بيد اللّه.. يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. فليست حظوظهم منها على سواء.. فكل له منها ما قسم اللّه له.. فبعضهم غنىّ واسع الغنى كثير المال، وبعضهم فقير، لا يملك شيئا، وبعضهم كثير المال لا ولد له، وبعضهم كثير الأولاد ولا مال له، وبعضهم سقيم امتلأت يداه بالمال، وبعضهم صحيح صفرت يداه من المال.
وهكذا.. هم في معيشة الحياة الدنيا درجات بعضها فوق بعض.. وذلك لأمر أراده اللّه، وهو أن يعيش النّاس في هذه المستويات المختلفة، حتى يملأوا كلّ فراغ فيها، وحتى تتدافع بهم تيارات الحياة، كما تتدافع الأمواج على صدر المحيط.
وقوله تعالى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا}.
إشارة إلى أن هذا الاختلاف بين الناس في حظوظ الحياة، هو الذي جعل لكل واحد منهم مكانه فيها.. فهذا خادم، وذاك مخدوم، وذلك مرءوس، وهذا رئيس.
وهذا ينسج وذلك يلبس، وهذا يخبز وذاك يأكل.. وهكذا.. كلّ إنسان يخدم ويخدم، من طريق مباشر أو غير مباشر:
الناس الناس من بدو ومن حضر *** بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
قوله تعالى: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
الرحمة هنا هى القرآن الكريم، الذي هو رحمة من رحمة اللّه، التي أشار إليها سبحانه في قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} فهذا القرآن، وما يحمل إلى الناس من خير، هو خير من كل ما يجمع الناس جميعا من مال، وما يقتنون من متاع، وما يرزقون من بنين.
قوله تعالى: {وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً}.
تكشف هذه الآية وما بعدها عن الطبيعة البشرية التي يستهوبها حبّ المال، وتفتنها شهوته.. فالنّاس جميعا- إلا من عصم اللّه- أضعف من أن يقاوموا شهوة المال، وأن يقهروا سلطانه المتمكن من نفوسهم.
وفى قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} بيان لتجربة عملية يمكن أن يمتحن بها الناس، ويرى فيها هذا الطبع الغالب عليهم، من حبّ المال وفتنته.. وتلك التجربة هى أن يساق المال بغير حساب، لكل من يكفر بالرحمن، حتى يتخذ هؤلاء الكافرون لبيوتهم سقفا من فضة، ومعارج- أي سلالم- من فضة، عليها يظهرون، أي يصعدون بها على ظهور هذه البيوت، كذلك يتخذون لبيوتهم أبوابا من فضة وسررا من فضة كذلك، يتكئون عليها، ويسمزون فوقها، كما يجلبون إلى هذه البيوت ألوانا من المتاع والزخرف حتى تفيض وتمتلىء.
هذه هى التجربة المفترضة.. فماذا يكون الشأن لو أنها وقعت فعلا، فكان لكل من يكفر بالرحمن، هذا العطاء، يساق إليه بغير حساب؟.
والجواب الذي تعطيه التجربة، هو أن يتحول الناس إلى الكفر، ويتزاحموا على طريقه، حتى يكون لهم هذا المال الذي يعطاه كل كافر.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً}.
فالأمة التي سيكون الناس عليها، هى أمة الكفر، والدّين الذي سيدينون به هو الكفر، لو فرض ووقع جواب هذا الشرط، وهو أن يكون لبيوتهم سقف من فضة ومعارج عليها يظهرون.. ولكن اللّه سبحانه وتعالى أراد لعباده الخير، فعافاهم من هذا الابتلاء، ودفع عنهم تلك الفتنة، فجعل متاع الدنيا قسمة بينهم، ينال منه الكافرون والمؤمنون على السواء.. كلّ حسب ما قدّر له.. دون أن يكون المال من حظ المؤمنين وحدهم، أو الكافرين وحدهم.. فإنه لا حساب للإيمان أو الكفر، فيما يساق إلى الناس من متاع الدنيا، لأن هذا المتاع- مهما كثر- لا يصح أن يكون معيارا يقوم عليه ميزان الإيمان أو الكفر.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}.
أي ما كل ذلك مما يساق إلى الناس من مال، وما يقيم لهم هذا المال من زينة الحياة الدنيا وزخرفها- ما كل ذلك إلا متاع هذه الحياة الدنيا وزاد أهلها.. أما الآخرة فلها زاد غير هذا الزاد، هو التقوى.. فالمتقون وحدهم هم الذين ستكون لهم الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم.. أما من سواهم، فلا شيء لهم من هذا النعيم.. وليس لهم في الآخرة إلا النار.
والجنة ونعيمها، لا يقوم متاع الدنيا كلها بلحظات قليلة منه، والنار وعذابها، لا يكفى مال الدنيا كلها لدفع ساعة منه.


{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}.
عشا عن الشيء يعشو، عشوا: فعل فعل الأعشى، وهو كليل البصر.
والعشو عن ذكر الرحمن، الإعراض عنه، مع قيام الحجج والبراهين بين يديه، كما يعشو بعض الناس في ضوء النهار لآفة تعرض لأبصارهم.
فالذى يعرض عن ذكر الرحمن هنا، هو من قامت بين يديه الدلائل، والحجج على صدق الرسول، وصدق ما جاء به من عند اللّه.. فهذا المعرض عن ذكر اللّه، يقيّض اللّه له شيطانا، أي يسوق ويهيىء له شيطانا {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أي ملازم له، مسلط عليه، يقوده إلى حيث يشاء.. فهو شيطان مع الشيطان حيث يكون.
وفى اختصاص صفة الرحمن بالذكر هنا من بين صفات اللّه سبحانه وتعالى- تذكير بهذه الرحمة المنزلة من الرحمن، وهى القرآن، وهى التي يعرض عنها أصحاب القلوب المريضة، فيتسلط عليهم الشيطان، ويملك أمرهم.. وإنها لمفارقة بعيدة أن يرى الإنسان يد الرحمن الرحيم تمتد إليه بالرحمة، ثم ينظر فيرى يد الشيطان الرجيم تمتد إليه بالبلاء والشقاء.. ثم يكون له- مع هذا- موقف للنظر والاختيار.. ثم يكون في الناس من يمد يده إلى الشيطان مبايعا على أن يصحبه إلى حيث ما يرى رأى العين من شقاء وبلاء!.
قوله تعالى {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}.
الضمير في {إِنَّهُمْ} للشياطين، أي وإن الشياطين ليصدون المشركين عن سبيل اللّه، ويدفعون بهم إلى طرق الغواية والضلال، ويزينونها لهم حتى ليحسبون أنهم مهتدون.
فقوله تعالى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} جملة حالية، تكشف عن الحال الشعورية التي يكون عليها المشركون وهم يركبون طرق الضلال.
فهم يساقون إلى الضلال وقد خيل إليهم أنهم قائمون على الهدى، مستمسكون بالعروة الوثقى!.
قوله تعالى: {حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}.
حتى: حرف غاية، لما تضمنه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أي أن الشيطان يظل في هذه الحياة قرينا لصاحبه هذا الذي لزمه، وأمسك بزمامه- إلى أن يجىء يوم الحساب والجزاء.. وهنا يتخلى الشيطان عن صاحبه، ويتخلى صاحبه عنه، ويتولى كلّ منهما رجم صاحبه بكل منكر، وقذفه بكل تهمة.. وفى هذا يقول اللّه تعالى، عن الكافرين أصحاب الشياطين: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [29: فصلت] ويقول سبحانه عن الشيطان: {وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [22: إبراهيم] ويقول سبحانه وتعالى عن إخوان السوء، ورفاق الضلال:
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [67: الزخرف].
وقوله تعالى: {يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} هو بيان لما في نفس هذا الضال الذي عشى عن ذكر الرحمن، وأصبح من قرناء الشيطان- من ضيق بصاحبه، ومن حسرة وندم على تلك الصلة التي كانت بينهما، والتي أوقعته فيما هو فيه اليوم من بلاء وعذاب.. ولهذا فهو يتمنى أن لو لم يجمعهما فلك، وأن لو كان كلّ منهما في عالم غير العالم الذي يعيش فيه صاحبه.
فقوله تعالى: {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} إشارة إلى استحالة الالتقاء بينهما، كما يستحيل التقاء مشرق الشمس شتاء بمشرقها صيفا.. مثلا.
وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} فهو اعتراض بين الآيتين، يراد به الإلفات إلى أن الحكم الذي يقع على الواحد من أتباع الشيطان، هو حكم عام يشمل أتباع الشياطين جميعا، وأنهم كلهم قرناء سوء، كلما كثرت أعدادهم زاد إغواؤهم، وإضلال بعضهم بعضا، حيث تشتد داعية الإغراء والإغواء، كلما كثرت الأعداد المتزاحمة على موارد الغواية والضلال.
قوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ}.
الخطاب هنا للفريقين.. التابعين والمتبوعين.. إنه لن ينفعهم اشتراكهم جميعا في العذاب.. ولن يشفى ما بصدور الضالين من نقمة وحنق على من كانوا سببا في إغوائهم وإضلالهم- أن يلقى هؤلاء المغوون ما يلقون من عذاب وبلاء.. وفى هذا يقول اللّه تعالى على لسان التابعين، وهم يطلبون مزيدا من العذاب لمن كانوا سببا في فتنتهم وبلائهم: {قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} فيجيبهم سبحانه بقوله:
{قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [38: الأعراف] ويقول سبحانه على لسان أئمة الكفر، ودعاة الضلال، وهم يردّون على أتباعهم الذين يتمنون لهم عذابا فوق العذاب: {إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ} [48: غافر].
فالمراد بقوله تعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ} ليس نفى مجرد النفع، وإنما المراد به النفع الذي يخلصهم من هذا العذاب، ويخرجهم من هذا البلاء.. إذ لا شك أن في رؤية التابعين مشاركة سادتهم لهم في العذاب، بعض العزاء لهم، وإن كان هذا لا يخفف من العذاب الذي هم فيه شيئا.
قوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
الاستفهام هنا يراد به النفي.. أي إنك أيها النبىّ لن تسمع الصمّ، ولن تهدى العمى، ولن تنقذ من كان في ضلال مبين.
وفى هذا عزاء للنبىّ الكريم عن مصابه في هؤلاء الضالين المفسدين من قومه.. الذين ركبوا رءوسهم، ومضوا يتخبطون في طرق الغواية والضلال، غير ملتفتين إلى الداعي الذي يدعوهم إلى النجاة، ويرفع لهم بين يديه نورا كاشفا من نور اللّه.
وفى هذا أيضا تهديد ووعيد لهؤلاء الضالين الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون اللّه، ويحسبون أنهم مهتدون.. فليتركهم النبىّ مع قرنائهم هؤلاء، فإنه- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يبعث ليسمع الصمّ أو يهدى العمى.
واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [81: النمل].
قوله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ}.
أي أن هؤلاء الصمّ، العمى، الذين ختم اللّه على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة- هؤلاء هم واقعون تحت بأس اللّه، مأخوذون بعذابه.. في الدنيا وفى الآخرة.
ففى قوله تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} إشارة إلى أنهم لن يفلتوا من قبضة اللّه، ولن يخلصوا من العقاب الراصد لهم، سواء أكان ذلك في حياة النبىّ أو بعد موته.. فإنه إن ذهب اللّه سبحانه بالنبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- ورفعه تعالى إليه، فإن انتقام اللّه سبحانه واقع بهم، وليس على النبىّ أن يشهد هذا الانتقام، وإنما حسبه أن اللّه سبحانه آخذ له بحقه من هؤلاء الذين ظلموه، وبغوا عليه.
وقوله تعالى: {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} إشارة أخرى إلى ما قد يحل بالمشركين من انتقام اللّه في الدنيا، مما توعدهم اللّه به، ومما يراه النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- فيهم، وذلك بما كان من قتل رءوس المشركين يوم بدر، ومن خزيهم يوم الخندق، ثم ذلّتهم وانكسارهم يوم الفتح.. فاللّه سبحانه وتعالى قادر على كل شىء، غالب على أمره.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
قوله تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
هو تعقيب على ما توعد اللّه سبحانه وتعالى به المشركين، من انتقام على تكذيبهم للرسول، واستهزائهم به، واستكثارهم عليه أن يكون مبعوث اللّه إليهم، دون سادتهم وأشرافهم.
وفى هذا التعقيب دعوة من اللّه سبحانه إلى النبي الكريم ألّا يحفل بهؤلاء المشركين، وألا يفتّ ذلك من عزمه، وألا يقف به ذلك عن المضىّ في سبيله، مستمسكا بالذي أوحى إليه من ربه.. وفى هذا يقول له اللّه تعالى: {وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا} [10: المزمل]. ويقول له سبحانه: {وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [48: الأحزاب].
وفى قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} تحريض للنبىّ، وتثبيت لقلبه.. ليمضى في طريقه، مع كتاب اللّه الذي بين يديه.. فإنه به على صراط مستقيم.. صراط اللّه الذي له ما في السموات وما في الأرض.. ومن كان على هذا الصراط فهو على طريق النجاة، والفلاح.. إنه على نور من ربه.
{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} [40: النور].
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ} هو تحريض كذلك، وشدّ لعزم النبىّ على الاستمساك بهذا الكتاب الذي بين يديه، فإن فيه ذكرا للنبىّ، ولقومه، وتمجيدا له ولهم على مرّ الأزمان.. إذ كان القرآن بلسان النبىّ ولسان قومه، وكان الرسول المبلغ لرسالة القرآن عربيا من هؤلاء العرب.. وإنه مادام للقرآن ذكر، ولرسالة القرآن ذاكرون- وهذا ما قدر اللّه له أن يكون إلى آخر الزمان- فإن ذكر الرسول باق، وذكر قومه باق كذلك.. فما آمن مؤمن باللّه، ولا دان ذو دين بالإسلام، إلا كان إيمانه برسول اللّه، وبكتاب اللّه، من تمام إيمانه باللّه.. وهذا فضل عظيم من اللّه سبحانه وتعالى على النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، إذ رفع في العالمين ذكره، وأعلى في المصطفين من عباده منزلته، كما يقول سبحانه: {وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ} [4: الانشراح].
كما أنه إحسان عظيم، ونعمة سابغة على الأمة العربية، التي اختارها اللّه سبحانه وتعالى، لتكون الأفق الذي تطلع فيه شمس الهداية المرسلة إلى العالمين، وليكون لسانها اللسان الذي ينقل إلى الناس هذا الهدى المرسل إليهم من ربهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [3: الزخرف] وقوله تعالى: {وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ}.
إلفات إلى هذه النعمة العظيمة التي امتنّ اللّه بها على الأمة العربية، إذ اختارها لحمل هذه الأمانة العظيمة.
وإنها لمسئولة عن حفظ هذه الأمانة، وعن حراستها من كل عاد يعد وعليها، كما أنها مسئولة عن أداء هذه الأمانة إلى أهلها، وإزاحة المعوقات والعلل من طريقها، وإلا كان الحساب العسير على أي تقصير أو تفريط يقع من أولئك الذين حملوا هذه الأمانة.. أفرادا وجماعات.
إن الدعوة إلى الإسلام، هى مسئولية هذه الأمة التي جاءت شريعة الإسلام بلسانها.. وإنه لشرف عظيم لهذه الأمة، يكسو أفرادها وجماعاتها على مدى الأجيال، أثواب العزّة والفخار.
ولهذا الشرف العظيم ثمن عظيم، يؤديه كل من يريد أن يتحلى بهذا الشرف، بما يبذل من جهد، ومال، وجهاد في سبيل اللّه، وتضحية بالنفس من أجل الدفاع عن دين اللّه، وكتاب اللّه.
قوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة أشارت إلى هذه النعمة العظيمة التي أنعم اللّه بها على الأمة العربية، بأن جعل خاتم الرسل منها، وجعل خاتم الرسالات دينها وشريعتها، وجعل لها القوامة على هذا الدين، وتلك الشريعة.. وهذا من شأنه أن يثير في نفوس العرب حمية وغيرة على هذا الدين واجتماعا على نصرته والدعوة له، لا أن يكون منهم العدوّ الراصد له، المتربص به، الخارج على طريقه..!!
فقوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} إلفات إلى هؤلاء المشركين الذين يعبدون ما يعبدون من دون اللّه، من أوثان، وكواكب، وملائكة، وإلى أن ما هم عليه من هذا المعتقدات ليس من دين اللّه في شىء.. وأن دين اللّه هو إفراده سبحانه وتعالى بالعبودية المبرأة عن الشريك، والصاحبة والولد.. فمن أىّ رسول من رسل اللّه تلقى المشركون هذا الدين الذي يدينون به؟ أكان من رسل اللّه من دعا إلى عبادة غير اللّه؟ وحاش للّه أن يحمل رسول من رسل اللّه دعوة إلى عبادة غير اللّه!! إذ كيف يكون رسولا للّه من يدعو لغير اللّه؟
والسؤال من النبىّ لرسل اللّه هنا، ليس سؤالا مباشرا، بحيث يسأل الرسل ويتلقى الجواب منهم.. وإنما هو سؤال بالنظر فيما قصّ اللّه سبحانه وتعالى على الرسول من قصص الرسل، ومحامل رسالاتهم إلى أقوامهم.. فقد كانت دعوة كل رسول إلى قومه: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}.
فهذا نوح- عليه السلام- يقول لقومه: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [26: هود].
وهذا هود- عليه السلام- يقول لقومه: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} [50: هود].
وصالح- عليه السلام- يقول لقومه: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} [61: هود].
وإبراهيم- عليه السلام- يقول لأبيه وقومه: {ما ذا تَعْبُدُونَ؟ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [85 86: الصافات].
وشعيب- عليه السلام- يهتف بقومه: {يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ} [84: هود].
وهكذا كانت دعوة الرسل إلى أقوامهم، تدور كلها حول تصحيح معتقدهم في اللّه، وإقامة وجوههم إلى اللّه وحده لا شريك له.
وفى نظر الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلى أخبار الرسل مع أقوامهم يجد أن دعوتهم قائمة على توحيد اللّه، وتحرير العقول من ضلالات الشرك به.
وكأنه- عليه الصلاة والسلام- بهذا، قد سأل الرسل، وتلقى الجواب منهم.
وليس الرسول- عليه الصلاة والسلام- في حاجة إلى أن يسأل عن أمر هو عالم به، ولكن هذا السؤال منه، هو دعوة إلى هؤلاء المشركين أن يشاركوا في هذا السؤال، وأن يتلقوا الجواب عليه، حتى يكون لهم من ذلك علم يصححون به معتقداتهم الفاسدة، التي جاء رسول اللّه- عليه الصلاة السلام- لعلاج ما بها من أدواء، كما جاء رسل اللّه جميعا بدواء تلك الأدواء.


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
مناسبة هذه القصة هنا، هو هذا الشبه القريب بين فرعون، وبين فراعين قريش، الذين كانوا ينظرون إلى النبىّ من سماء عالية، من الغرور الكاذب، والوهم الخادع، فيكذّبون رسول اللّه، ويهزءون به، لا لشىء إلا لأنه ليس أكثرهم مالا، ولا أوسعهم غنى، وإنهم لينكرون أن يختار اللّه لرسالته من لا يختارونه هم للرياسة عليهم، والسيادة فيهم.. {وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!} [31: الزخرف].
وقصة موسى مع فرعون، هنا، هى مرآة يرى المشركون على صفحتها وجوههم المنكرة في شخص فرعون، وماركبه من غرور واستعلاء، حتى أورده ذلك وقومه موارد الهلاك.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ}.
هو رجع لصدى هذه الضحكات الهازئة الساخرة التي كان المشركون يلقون بها النبي، كلما طلع عليهم بآية من آيات اللّه.. كما يقول اللّه تعالى في آية تالية من هذه السورة: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أي يضجون بالضحك الهازئ، الساخر.. وكما يقول سبحانه: {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ؟ وَتَضْحَكُونَ؟ وَلا تَبْكُونَ؟} [59- 60: النجم].
قوله تعالى: {وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
هو إشارة إلى ما كان بين يدى موسى من آيات عجبا، عرضها على فرعون وملائه، آية آية.. ليكون لهم في هذا مزدجر، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا، وضلالا.
وفى قوله تعالى: {إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها} إشارة إلى الآثار التي كانت تحدثها هذه الآيات في حياة القوم.. فكانت تنتقل بهم من سيىء إلى أسوأ.. كما يقول اللّه سبحانه: {فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [42: الأنعام].
والمراد بالآيات هنا هى تلك الآيات التي أرسلها اللّه عليهم بالبلاء بعد البلاء.
كما يقول سبحانه: {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} [133: الأعراف].
قوله تعالى: {وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ}.
أي أنهم كانوا كلما نزل بهم البلاء، وأحاط بهم الكرب، جاءوا إلى موسى يسألونه أن يرفع عنهم هذا البلاء، على أن يؤمنوا باللّه الذي يؤمن به هو، ويدعوهم إليه.
وفى قوله تعالى: {يا أَيُّهَا السَّاحِرُ} إشارة كاشفة عما في نفوسهم من إصرار على الكفر، وإن نطقت ألسنتهم بالإيمان.. فهم لا يرون في موسى إلا ساحرا كبيرا. وأنه قادر بسحره هذا على أن يسوق إليهم البلاء، وأن يمسكه إذا شاء.. فهم بهذه الصفة يتعاملون معه.. أما دعواه بأنه رسول من رب العالمين، فهذا ادعاء لم يصحّ عندهم، وإن قبلوه منه، فهو إلى أن ينكشف البلاء عنهم.. {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ} [134- 135: الأعراف].
وفى قوله تعالى: {رَبَّكَ} اعتراف ضمنى منهم، بأنهم على ما هم عليه من كفر باللّه.. فهو رب موسى.. وليس ربّهم.. وهو الذي عهد إلى موسى بهذا السحر الذي بين يديه، وعلّمه إياه.
قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ}.
أي فلما استجاب اللّه لموسى فيما طلبه من رفع البلاء عنهم، لم يستقيموا على العهد الذي عاهدوا موسى عليه، من الإيمان باللّه، بعد رفع البلاء عنهم.
بل نكثوا العهد، وأمسكوا بما هم عليه من كفر.
قوله تعالى: {وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ}.
أي لم يكتفوا بنكث العهد، بعد أن رفع عنهم البلاء، الذي كان مشتملا عليهم، ولم يشكروا اللّه على العافية، بل ازدادوا كفرا وضلالا، فجمع فرعون قومه، وحشدهم بين يديه، ليعيد إليهم ثقتهم فيه، وإيمانهم به، بعد هذه الزلزلة العاتية التي أصابتهم من هذا البلاء الذي لم يجدوا من فرعون حيلة يحتال بها لدفعه، حتى اضطروا إلى الوقوف بين يدى موسى موقف التذلل والرجاء، طالبين إليه كشف الضر عنهم، فكان لهم ما طلبوا!! وهذا موقف من شأنه أن يذهب بهيبة فرعون، ويتحيّف سلطانه القائم في قومه، فكان هذا التدبير الذي جاء عقب هذه التجربة التي دخل فيها القوم بيد موسى، ثم أخرجوا منها بيد موسى أيضا.
{وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ.. قالَ يا قَوْمِ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ.. وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.. أَفَلا تُبْصِرُونَ؟}.
ومن أنكر على فرعون هذا الملك الذي له؟ إنه هو الذي ينكر على نفسه هذا الملك، بعد أن رأى كيف تهزه الأحداث، وتزلزله النكبات، وتكاد تبتلعه الأمواج المضطربة، وهو لا يملك لذلك دفعا!! فأين سلطانه؟ وأين جبروته؟ لقد تعرّى من كل شىء، وأصبح في هذه المحنة نبتة هزيلة، تعصف بها الرياح فيما تعصف به من نبات وأعشاب! إنه يلوذ بموسى عدوّه، طالبا أن يمد إليه يده ليدفع عنه هذا البلاء الذي نزل به.
إن فرعون هنا يفكر بصوت عال- كما يقولون- فهو بهذا الحديث إلى قومه، يكشف عما يشعر به من ضياع لسلطانه، وذهاب لهيبته. وهو بهذا الحديث يتحسس وجوده الذي ذهب، وسلطانه الذي ضاع.. تماما كما يفعل من صحا من حلم مزعج، رأى فيه أنه سقط من قمة جبل فتحطم، وتبدّد أشلاء، إنّه ليتحسس جسده ليرى إن كان حيّا أو هو في عالم الأموات، وإن كان هو في يقظة أو في حلم!.
وفى قوله تعالى: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} طلب من فرعون لمزيد من الصفعات على وجهه، ليتأكد له أنه موجود على قيد الحياة، وأنه لا يزال قائما على كرسى الملك.. وإن من شك في ذلك فلينظر.. فها هو ذا فرعون.. وها هو ذا عرش فرعون.. وها هو ذا قائم على كرسى مملكته!! إنه الغريق الذي احتواه اليمّ، وقد بئس الذي ينظرون إليه من نجاته،. وهو يهتف بهم: أنا هنا.. ما زلت حيّا.. فلا تهيلوا التراب علىّ!!.
قوله تعالى: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ}.
أم هنا للإضراب على تلك المشاعر التي يراها فرعون تتحرك في صدور قومه، من استخفاف به، وإكبار لموسى.. فهو يقول لهم: لا تظنوا هذه الظنون بموسى، ولا تجعلوه معى على كفة ميزان.. إنه ليس مثلى، ولا خيرا منّى.. بل أنا خير من هذا الذي هو مهين، لا ملك معه، ولا سلطان له، ولا منطق مستقيم على لسانه.
ومن قال من القوم إن موسى خير منه؟.
إن فرعون نفسه هو الذي يقول هذا، وإنه ليرى موسى، وقد نازعه سلطانه، بل وانتزعه منه.. وإن فرعون لينزل من سمائه العالية، ويرضى أن يكون هو وموسى على كفتى ميزان.. على أن تكون كفته أرجح من كفة موسى.. أنا خير منه!!.
لقد نفذ القرآن الكريم بهذه الكلمات القليلة، إلى أغوار النفس الإنسانية ورصد حركاتها وسكناتها، وكشف عما يندس في مساربها من خواطر وتصورات، وما يزدحم في أعماقها من رؤى وخيالات.
وهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، يطالع من ينظر فيه متأملا، آيات بينات، تشهد بأن هذا القرآن هو من كلام رب العالمين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تنزيل من حكيم حميد.
قوله تعالى: {فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}.
إن فرعون إذ يجلس على كرسى عرشه، فزعا مضطربا، ليرى- بلمح الخاطر- يد موسى تكاد تمتد إليه وتنتزعه من هذا العرش، ثم يرى هذه اليد عطلا من كل حلىّ، على حين يرى يديه هو قد حليتا بأساور من ذهب، مما يدل على أنه الملك الجدير بالجلوس على هذا العرش- وهنا يجدها فرعون فرصة ليضع في كفة ميزانه ثقلا جديدا تثقل به كفته، على حين تخف كفة موسى.
فيقول: {أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ}.
ثم أنا خير من هذا الذي لم تحلّ يده بحلية من ذهب، شأن الملوك وأصحاب السلطان.. فلو أن هذا الإنسان كان رسولا من عند اللّه حقّا لما ضنّ عليه ربه بأن يلقى عليه أسورة من ذهب، كأمارة على أنه موفد من جهة عالية، ذات بأس، وذات سلطان! فإن لم يكن أهلا لأن ينال من ربه هذه المكرمة، أفلا جاء معه ملك أو ملائكة من السماء، يشهدون له أنه رسول من عند اللّه؟ فإذا لم يكن هذا أو ذاك، فبأى وجه يكون لموسى مقام بيننا ومكانة فينا؟.
واقتران الملائكة: هو اتصالهم ومرافقتهم لموسى.
قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ}.
أي أن فرعون استخف بعقول قومه، واستصغر أحلامهم، فتحدث إليهم بهذا الحديث الذي لا يقبله عقل، ولا يستسيغه عاقل.. ومع هذا فقد تلقاه القوم بالتسليم والطاعة، ولم يقم من بينهم قائم ينكر هذا القول المنكر، ويسفه هذا المنطق السفيه.. {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ..} أي كانوا على ما كان عليه فرعون من سفاهة، وجهل، فراجت عندهم هذه البضاعة الفاسدة! وهكذا يستغلظ الضلال، وتنتشر سحبه القائمة في المواطن التي تقبل الباطل، وتستجيب له.. تماما كالبرك والمستنقعات، تتداعى عليها الهوامّ والحشرات، وتتوالد وتتكاثر في أعداد لا تعدّ ولا تحصى.
وإنها ليست مسئولية داعية الضلال وحده، بل هى كذلك مسئولية.
الذين يستجيبون له، ولا ينكرون عليه المنكر الذي يدعوهم إليه.. ومن هنا كان الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر مسئولية منوطة بكل مجتمع إنسانىّ، في أفراده وجماعاته، إذ كانت الجماعة أشبه بالجسد، فيما يعرض له من عوارض العلل والآفات.. فأى عضو في الجماعة، يعرض له عارض من عوارض الفساد، يهدد الجماعة كلها بتلك الآفة، التي إن لم تجد من يطبّ له منها، سرت عدواها في المجتمع كله، وتهددت وجوده.
قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وهكذا كانت عاقبة الجماعة كلها.. داعية الضلال، ومن ضلّ بضلاله.
لقد أخذهم اللّه جميعا بعذابه، فأغرقهم كما أغرق فرعون.
وفى قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ}.
إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى، قد أمهل هؤلاء الضالين، ومدّ لهم في ضلالهم، حتى يكون لهم فسحة من الوقت، يراجعون فيها أنفسهم، ويعدّلون موقفهم المنحرف.
فلما لم يكن لهم في هذا الإمهال، وفى تلك المطاولة، إلا الإمعان في الضلال، والإسراف في العناد- أخذهم اللّه بذنوبهم، ولم يكن لهم من دون اللّه من ولى ولا نصير.
فقوله تعالى: {آسَفُونا} أي أسخطونا عليهم.. واللّه سبحانه وتعالى {حليم} فلا يغضب اللّه إلا على من أخذه بحمله ثم لم يزده الحلم إلا سفها وجهلا.
قوله تعالى: {فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ}.
أي أن العذاب الذي أخذ به هؤلاء الضالون، المسرفون في الضلال، كانا عذابا يضرب به المثل من بعدهم، ويرى الخلف عبرة وعظة فيما نزل بهذا السلف.

1 | 2 | 3 | 4